"وسابعها: وفيه التفسير" أي: يجمل ما تقدم، ومعناه: نفرق بين حركة البدن وبين أعمال القلب، وهذه قاعدة عظيمة؛ لأن عمل القلب هو الأصل في كل شيء، ومدار الأمور على عمل القلب، حتى الطاعات فيما بينها تتفاوت بتفاوت أعمال القلوب، فيصلي المصلي بجوار المصلي وبينهما مثلما بين السماء والأرض؛ لأن هذا صلّى بقلب خاشع، والآخر أقل خشوعاً منه أو أنه صلى بلا خشوع -مع أن الحركات واحدة- وكل منهما يقرأ القرآن، ولكن يوجد فرق بين هذا وذاك في التدبر والخضوع والخشوع، وإن كانوا في القراءة سواء.
يقول: "أما الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالربوبية والعبودية فهذا لا يكون على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى وحده، وهو في غيره ممتنع باطل، وأما السجود فشريعة من الشرائع" أي: مجرد السجود لا بنية التعبد والقنوت والخضوع فشريعة من الشرائع أي: حكم عملي، وتُطلق الشريعة مقابل العقيدة، بمعنى: الفروع العملية مقابل الأمور الاعتقادية، فالقنوت والخضوع والعبودية تكون لله وحده في جميع الأمم، وعلى لسان جميع الرسل، وفي جميع العصور، أما السجود -الفعل- من غير خضوع وقنوت، فهذه شريعة من الشرائع فهو حكم أو أمر عملي، قد يكون في ذلك الوقت والزمان.
يقول: "إذا أمرنا الله تعالى أن نسجد له" يعني اختصاصاً "ولو أمرنا أن نسجد لأحد -من خلقه- غيره لسجدنا لذلك الغير طاعة الله عز وجل" ولكنه لا يأذن لنا أن نعبد غيره أو نقنت لغيره.
يقول: "إذ أحب أن نعظم من سجدنا له" أي: لو أحب الله أن نعظم من سجدنا، وأمرنا به لسجدنا وامتثلنا.
"ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب ألبتة فعله فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له، وقربة يتقربون بها إليه وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم" وليس عبودية ولا تألهاً ولا تقرباً إليه.
"وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام، ألا ترى أن يوسف لو سجد لأبويه -تحية- لم يكره له؟!
ولم يأتِ أن آدم سجد للملائكة، بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا لله رب العالمين" فيعقوب عليه السلام سجد ليوسف على أنه يجوز ليوسف رد التحية بالسجود لأبويه وهذا جائز في شرعهم، وأما الملائكة، فما شرع الله ولا أمر بني آدم أن يسجدوا للملائكة، وإنما أمر الملائكة بأن تسجد لآدم تشريفاً وتكريماً له، فكل موضع بحسبه، والآمر هو الله، وحيث ما أمر امتثلنا.
قال: "بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا لله رب العالمين، ولعل ذلك -والله أعلم بحقائق الأمور- لأنهم أشرف الأنواع، وهم صالحو بني آدم، فليس فوقهم أحد يحسن السجود له إلا لله رب العالمين" كأن هذا إشارة من شيخ الإسلام إلى تفضيل آدم وصالحي ذريته على الملائكة، وإن كان هو يقول: هذا بحسب النهاية والمآل لا بحسب الحال، فالجنس الإنساني أفضل الأجناس باعتبار المآل، والصالحون من بني آدم ليس فوقهم من يحسن أن يسجدوا له، أو يحق لهم أن يسجدوا له، بل لا يسجدون إلا لله رب العالمين.
قال: "وهم أكفاء بعضهم لبعض، فليس لبعضهم مزية بقدر ما يصلح له السجود، ومن سواهم فقد سجد لهم من الملائكة للأب الأقوم، ومن البهائم للابن الأكرم" فالأب الأقوم آدم، والابن الأكرم إشارة إلى ما جاء في السير، من أن بعض الدواب سجدت للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: "وأما قولهم: لم يسبق لآدم ما يوجب الإكرام له بالسجود، فلغو من القول، هذى به بعض من اعتزل الجماعة" يعني بذلك من خالف أهل السنة والجماعة "فإن نعم الله تعالى وأياديه وآلائه على عباده ليست بسبب منهم، ولو كانت بسبب منهم فهو المنعم بذلك السبب" إلى أن قال: "وهو أيضاً باطل على قاعدتهم لا حاجة لنا إلى بيانه هاهنا...".